إلى أين تتجه أسعار الذهب في النصف الثاني من عام 2023
قفزت أسعار الذهب في بداية مايو الماضي لتسجل قمة تاريخية جديدة على حدود 2,079$ للأوقية، ثم بدأت لاحقًا اتجاهًا هبوطيًا دفعها للاستقرار أسفل المستوى النفسي 2,000$ حتى انتهاء النصف الأول من العام.
يبدو واضحًا أن حالة عدم اليقين المرتبطة باتجاهات الذهب تنسجم مع ضبابية السياسات النقدية لدى البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي، جنبًا إلى جنب مع التضارب الواضح في توقعات التضخم والنمو الاقتصادي. ولا يمكن فصل هذه التطورات في المدى القصير عن الوظيفة التاريخية للمعدن الأصفر على مر العصور، باعتباره مخزنًا للقيمة وأداة للتحوط من ضعف العملات الورقية. على الجانب الآخر، تتأثر أسعار الذهب سلبًا بمنحى العائد في أسواق الأصول المرتبطة بالمخاطرة، خصوصًا وأن المعدن الثمين لا يُغِل عائدًا لحامليه.
للإجابة على تساؤل متى يرتفع الذهب، دعنا نلقي نظرة سريعة إلى الوراء. سنلاحظ أن الذهب قد بدأ رحلته الصعودية في 2015 بعد أن سجل أدنى مستوياته عند 1,046$ للأوقية. وبدأت رحلة المكاسب القوية مع ظهور فيروس كورونا في أوائل عام 2020 حيث تسببت اضطرابات الأسواق المالية، بسبب إجراءات الإغلاق الصحي، في هرولة المستثمرين صوب أصول الملاذ الآمن، وعلى رأسها الذهب. تلقى المعدن الأصفر أيضًا دعمًا قويًا من سياسات التيسير الكمي والحوافز النقدية الهائلة التي قدمتها البنوك المركزية والحكومات لاحتواء الآثار السلبية للجائحة على مواطنيها بسبب توقف العديد من الأنشطة الاقتصادية.
وما كاد العالم يلتقط أنفاسه من تفشي كورونا حتى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، والتي خلقت حالة من النفور الشديد من المخاطرة لدى المستثمرين في ظل ما أثارته من مخاوف بشأن اندلاع حرب عالمية ثالثة، وكذلك التبعات الاقتصادية الهائلة للعقوبات الغربية على روسيا، والتي تعد أكبر منتج للنفط والطاقة في العالم.
وبرغم الدفعة القوية التي حصل عليها الذهب في بداية الجائحة، إلا أن الزخم الصعودي تلاشى نسبيًا مع ظهور بدائل استثمارية أخرى تحقق عوائد مغرية، مثل البيتكوين وباقي العملات المشفرة. كما انتعشت أسهم الشركات والقطاعات التي استفادت من الجائحة، مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي، ومواقع التسوق الإلكتروني، وشركات الوساطة المالية عبر الإنترنت.
تبدلت الأمور لاحقًا بعد انحسار الجائحة الصحية، حيث بدأ العالم في معاناة أكثر وطأة مع اضطراب سلاسل التوريد وتفاقم معدلات التضخم بشكل غير مسبوق. ومع نهاية 2022، بلغت معدلات التضخم ذروتها في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تجاوزت حاجز الـ 10% للمرة الأولى منذ أوائل الثمانينات. أدى ذلك بطبيعة الحال إلى تسريع خطوات تشديد السياسة النقدية من خلال رفع غير مسبوق لأسعار الفائدة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على مدار 10 جلسات متتالية لتتجاوز حاجز الـ 5%. وبرغم أن البنوك المركزية الأخرى لا تزال متأخرة في اللحاق بركب الاحتياطي الفيدرالي، إلا أنها تواصل أيضًا رفع أسعار الفائدة بوتيرة أكثر هدوءً.
أدت هذه التطورات إلى فقدان الذهب لجزء كبير من جاذبيته مع بداية دورة التشديد النقدي في مارس 2022. فشل السعر آنذاك في تجاوز عقبة القمم التاريخية التي سجلها أعلى 2,070$ وبدأ في رحلة هبوطية لم تتوقف سوى في نوفمبر 2022 مع ظهور إشارات على بلوغ التضخم ذروته في الولايات المتحدة. قفز سعر الذهب بنحو 15% من قيعان نوفمبر إلى أوائل فبراير 2023 مدعومًا باللهجة التي تحدث بها جيروم باول، والتي كانت أكثر ميلاً للتيسير النقدي، وهو ما تزامن مع زيادة استهلاك الذهب في الصين خلال أعياد السنة القمرية.
تلقت أسعار الذهب دعمًا إضافيًا خلال النصف الأول من 2023 بدعم من تدفقات الملاذ الآمن التي حفزتها أحداث عديدة كان على رأسها انهيار صناعة العملات المشفرة، ثم تلاها إفلاس عدد من البنوك في الولايات المتحدة. وحاول الذهب للمرة الثالثة اختراق القمة التاريخية المذكورة في مايو، إلا أن المستوى 2,080$ لا يزال عصيًا على الكسر حتى الآن.
تعتمد توقعاتنا لسعر الذهب في النصف الثاني من 2023 بشكل رئيسي على السيناريوهات المحتملة للسياسة النقدية، ومسارات النمو الاقتصادي والضغوط التضخمية في أوروبا والولايات المتحدة، وكذلك التطورات الجيوسياسية في ملفات الصراع الساخنة، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية.
وبناءً على ذلك، فإن توقعاتنا للشهور المتبقية من العام تتراوح ما بين محايدة إلى صعودية، حيث نعتقد أن الاحتياطي الفيدرالي قد استنفد بالفعل القدر الأكبر من ذخيرته لتشديد السياسة النقدية. هناك أيضًا بوادر على دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة من الركود، والتي كانت متوقعة في ظل السياسات التقييدية التي استهدفت مجابهة التضخم.
تعتمد التوقعات المحايدة في هذا الصدد على أن المرونة التي يبديها الاقتصاد الأمريكي في مواجهة سياسات التشديد النقدي، جنبًا إلى جنب مع استمرار معدلات التضخم أعلى من المستوى المستهدف للبنك المركزي، والبالغ 2%، قد تُبقي على أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة. وحتى مع تضاؤل فرص الرفع الإضافي، فإن استمرار معدلات الفائدة عند مستوياتها الحالية يزيد من تكلفة الفرصة البديلة لاقتناء الذهب.
على الجانب الآخر، يعتمد السيناريو الصعودي على حدوث تدهور في مؤشرات الاقتصاد الكلي بشكل يدفع الاحتياطي الفيدرالي سريعًا إلى تيسير السياسة النقدية من خلال البدء في خفض أسعار الفائدة قبل نهاية العام. من المتوقع أيضًا أن نشهد زيادة في الطلب المادي، خصوصًا في الأسواق الناشئة التي تعاني الكثير منها من تهاوي قيمة العملات المحلية. وفي ذات السياق، قد تبدأ البنوك المركزية في تعزيز احتياطياتها من الذهب بعد موجة بيع مكثفة للاستفادة من الارتفاعات القياسية خلال الشهرين الماضيين.
وبناء على السيناريو الأخير، تشير تقديرات بنوك الاستثمار إلى أن الذهب قد ينجح أخيرًا في تجاوز عتبة المستوى 2,100$ بحلول نهاية 2023، فيما تشير بعض التقديرات المتفائلة إلى بدء رحلته إلى المستوى 3,000$ في 2024 حين تبدأ البنوك المركزية في التخلص من أسعار الفائدة المرتفعة وتُعيد التركيز بدلاً من ذلك على حماية الاقتصاد من الوقوع في براثن الركود.